فصل: فَصَلِّ: قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (نسخة منقحة)



.فَصَلِّ: في الْحَبْسُ:

لَمَّا كَانَ الْحَبْسُ مِنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَتَعَلَّقَ بِهِ أَحْكَامٌ أَفْرَدَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَطَلَبَ) الْمُدَّعِي (حَبْسَ خَصْمِهِ فَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا يَحْبِسُهُ) أَيْ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالَ (إلَّا إذَا أَمَرَهُ بِالْأَدَاءِ فَأَبَى) فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ.
(وَإِنْ ثَبَتَ) أَيْ الْحَقُّ الَّذِي ادَّعَاهُ وَلَوْ دَانِقًا (بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالدَّفْعِ) إنْ طَلَبَ الْخَصْمُ حَبْسَهُ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِالْإِنْكَارِ.
وَقَالَ شُرَيْحٌ: يَحْبِسُهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهِ (وَقِيلَ لَا) يُحْبَسُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالدَّفْعِ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ رُبَّمَا تَعَلَّلَ بِهِ، وَيَقُولُ: مَا عَلِمْتُ إلَّا السَّاعَةَ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَصِفَةُ الْحَبْسِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ فِرَاشٌ وَلَا طَاقٌ وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ إلَّا أَقَارِبَهُ وَجِيرَانَهُ وَلَا يَمْكُثُونَ عِنْدَهُ طَوِيلًا وَلَا يَخْرُجُ لِجُمُعَةٍ وَعِيدٍ وَلَا لِجَمَاعَةٍ وَلَا لِحَجِّ فَرْضٍ وَلَا لِحُضُورِ جِنَازَةٍ وَلَوْ بِكَفِيلٍ كَمَا فِي التَّبْيِينِ لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ يَخْرُجُ بِالْكَفِيلِ لِجِنَازَةِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَفِي غَيْرِهِمْ لَا يَخْرُجُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَلَا يَخْرُجُ لِمَوْتِ قَرِيبِهِ إلَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ لِقَرَابَةِ الْوِلَادِ.
وَفِي رِوَايَةٍ يَخْرُجُ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُجَهِّزُهُ، وَلَا يُضْرَبُ الْمَحْبُوسُ لِأَجْلِ الدَّيْنِ إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى قَرِيبِهِ فَيُضْرَبُ، وَلَا يُغَلُّ إلَّا إذَا خِيفَ أَنَّهُ يَفِرُّ فَيُقَيِّدُهُ، وَلَا يُجَرَّدُ وَلَا يُقَامُ بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِ الْحَقِّ إهَانَةً، وَتَعْيِينُ مَكَانِ الْحَبْسِ لِلْقَاضِي إلَّا إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي مَكَانًا آخَرَ (فَإِنْ ادَّعَى الْفَقْرَ حَبَسَهُ فِي كُلِّ مَا لَزِمَهُ بَدَلَ مَالٍ) وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِهِ (كَالثَّمَنِ) أَطْلَقَهُ فَشَمِلَ الْأُجْرَةَ الْوَاجِبَةَ لِأَنَّهَا ثَمَنُ الْمَنَافِعِ، وَشَمِلَ مَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَمَا عَلَى الْبَائِعِ بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا بِإِقَالَةٍ أَوْ خِيَارٍ، وَشَمِلَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَمَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوْ لَا كَمَا فِي الْبَحْرِ (وَالْقَرْضِ) لِثُبُوتِ غَنَائِهِ بِحُصُولِ الْمَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ (أَوْ) لَزِمَهُ (بِالْتِزَامِهِ كَالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ) قَيَّدَ بِالْمُعَجَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُحْبَسُ فِي الْمُؤَجَّلِ وَيُصَدَّقُ فِي الْإِعْسَارِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَفِي الْأَصْلِ لَا يُصَدَّقُ فِي الصَّدَاقِ بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ مُؤَجَّلِهِ وَمُعَجَّلِهِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ (وَالْكَفَالَةِ) إذْ الْإِقْدَامُ عَلَى الِالْتِزَامِ دَلِيلُ الْيَسَارِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَيَتَمَكَّنُ الْمَكْفُولُ لَهُ مِنْ حَبْسِ الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ وَكَفِيلِ الْكَفِيلِ وَإِنْ كَثُرَ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: رَجَّحَ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ وَاجِبًا بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ كَالْقَرْضِ وَثَمَنِ الْبَيْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْيَسَارِ، مَرْوِيٌّ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهُوَ خِلَافُ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِلْهِدَايَةِ، وَذَكَرَ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمُفْتَى بِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْإِفْتَاءُ فِيمَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ وَلَمْ يَكُنْ بَدَلَ مَالٍ، وَالْعَمَلُ عَلَى مَا فِي الْمُتُونِ لِأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ مَا فِي الْمُتُونِ وَالْفَتَاوَى فَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْمُتُونِ وَكَذَا يُقَدَّمُ مَا فِي الشُّرُوحِ عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى، وَقِيلَ الْقَوْلُ لِلْمَدْيُونِ فِي الْكُلِّ، وَقِيلَ لِلدَّائِنِ فِي الْكُلِّ، وَقِيلَ يُحْكَمُ بِالزِّيِّ إلَّا فِي الْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ كَمَا فِي الْبَحْرِ (لَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ) أَيْ لَا يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ فِيمَا سِوَى تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ كَبَدَلِ الْغَصْبِ، وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالنَّفَقَةِ، وَإِعْتَاقِ الْإِمَاءِ الْمُشْتَرَكَاتِ، وَبَدَلِ الْكِتَابَاتِ إنْ ادَّعَى الْمَدْيُونُ الْفَقْرَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْآدَمِيِّ الْعُسْرَةُ، وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ الْغَنَاءُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ (إلَّا إذَا بَرْهَنَ خَصْمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا وَيَحْبِسُهُ) أَيْ الْقَاضِي الْمَدْيُونَ حِينَئِذٍ (مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ) أَيْ لِلْمَدْيُونِ (مَالٌ لَأَظْهَرَهُ هُوَ الصَّحِيحُ) وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَالِ فَلَا مَعْنَى لِتَقْدِيرِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ أَوْ شَهْرٍ اتِّفَاقِيٌّ وَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ حَتْمًا (وَقِيلَ) يَحْبِسُهُ (شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً) وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّاهُ وَلَوْ قَالَ الْمَدْيُونُ: حَلِّفْهُ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنِّي مُعْسِرٌ يُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، وَيُحَلِّفُهُ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ إعْسَارَهُ فَإِنْ حَلَفَ حَبَسَهُ بِطَلَبِهِ، وَإِنْ نَكَلَ لَا يَحْبِسُهُ وَالْمُرَادُ مِنْ الْغَنَاءِ قُدْرَةٌ الْآنَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَوْ كَانَ لِلْمَحْبُوسِ مَالٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ يُطْلِقُهُ بِكَفِيلٍ، وَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي عُسْرَةً لَكِنْ لَهُ مَالٌ عَلَى آخَرَ يَتَقَاضَى غَرِيمَهُ فَإِنْ حَبَسَ غَرِيمَهُ الْمُوسِرَ لَا يَحْبِسُهُ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.
وَفِي الْبَحْرِ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْبِسُ الْمَدْيُونَ إذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ مَالًا غَائِبًا أَوْ مَحْبُوسًا مُوسِرًا، وَأَنَّهُ يُطْلِقُهُ إذَا عَلِمَ بِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ الْمَحْبُوسِ بَعْدَ حَبْسِهِ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ مِنْ جِيرَانِهِ فَإِنْ قَامَتْ عَلَى إعْسَارِهِ أَطْلَقَهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَشَرْطِهِ.
وَالصُّغْرَى: فِي الْعَدْلِ الْوَاحِدُ يَكْفِي وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ، وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُخْبِرُ: إنَّ حَالُ الْمُعْسِرِينَ فِي نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ لِسَمَاعِهَا حُضُورُ رَبِّ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ غَائِبًا سَمِعَهَا وَأَطْلَقَهُ بِكَفِيلٍ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ (فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ) أَيْ لِلْمَحْبُوسِ (مَالٌ) بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْهُ (خَلَّى سَبِيلَهُ) أَيْ خَلَّى الْقَاضِي الْمَحْبُوسَ، لِأَنَّ عُسْرَتَهُ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّ النَّظَرَ إلَى الْمَيْسَرَةِ لِلْآيَةِ، فَحَبْسُهُ بَعْدَهُ يَكُونُ ظُلْمًا (إلَّا أَنْ يُبَرْهِنَ خَصْمُهُ عَلَى يَسَارِهِ) بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ مُوسِرٌ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَالِ (فَيُؤَبِّدَ حَبْسَهُ) لِظُهُورِ أَنَّهُ يُصِرُّ عَلَى ظُلْمِهِ مِنْ مَنْعِ حَقِّ أَخِيهِ فَيُجَازَى بِتَأْبِيدِ حَبْسِهِ (وَلَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إعْسَارِهِ قَبْلَ حَبْسِهِ، عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ إلَّا إذَا قَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ زَمَانٍ عَلَى عُسْرَةٍ فَتُقْبَلُ، لِأَنَّ الْعَسَارَ بَعْدَ الْيَسَارِ أَمْرٌ عَارِضٌ أَيْضًا فَيُخَلِّيهِ الْقَاضِي بِلَا كَفِيلٍ إلَّا فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَمَالِ الْوَقْفِ وَمَالِ الْغَائِبِ فَلَا يُطْلِقُهُ إلَّا بِكَفِيلٍ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ أَطْلَقَ الْقَاضِي الْمَحْبُوسَ لِإِفْلَاسِهِ، ثُمَّ ادَّعَى آخَرُ مَالًا وَادَّعَى أَنَّهُ مُوسِرٌ لَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَعْلَمَ غِنَاهُ.
(وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ لِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ) لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْإِنْفَاقِ فَلَا يُحْبَسُ فِي النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَلَكِنْ لَا تَسْقُطُ إنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَا أَوْ اصْطَلَحَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ مَالٍ، وَإِلَّا لَزِمَتْهُ بِعَقْدٍ (لَا وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ) أَيْ لَا يُحْبَسُ أَصْلٌ فِي دَيْنِ فَرْعِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِسَبَبِ وَلَدِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَهُ بِشَيْءٍ، وَهُوَ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَامْتَنَعَ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِ وَلَدِهِ، وَقُلْنَا لَا يُحْبَسُ فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِلَّا بَاعَهُ لِلْقَضَاءِ كَبَيْعِهِ مَالَ الْمَحْبُوسِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمَا بَيْعُ عَقَارِهِ كَمَنْقُولِهِ.
وَلَوْ قَالَ الْمَدْيُونُ: أَبِيعُ عَرَضِي وَأَقْضِي دَيْنِي أَجَّلَهُ الْقَاضِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَوْ لَهُ عَقَارٌ يَحْبِسُهُ وَلْيَبِعْهُ، وَيَقْضِي الدَّيْنَ وَلَوْ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ.
قَيَّدَ بِدَيْنِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُحْبَسُ بِدَيْنِ أَصْلِهِ، وَيُحْبَسُ الْقَرِيبُ بِدَيْنِ قَرِيبِهِ كَمَا فِي الْبَحْرِ (إلَّا إنْ أَبَى) الْوَالِدُ (مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَلَدِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُحْبَسُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لِحَاجَةِ الْوَقْتِ وَهُوَ بِالْمَنْعِ قَصَدَ إهْلَاكَهُ فَيُحْبَسُ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهُ، وَكَذَا الْمَوْلَى لَا يُحْبَسُ بِدَيْنِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، وَلَا يُحْبَسُ الْعَبْدُ لِدَيْنِ الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى يُحْبَسُ بِدَيْنِ مُكَاتَبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ لَا يُحْبَسُ وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ، وَيُحْبَسُ بِدَيْنٍ آخَرَ عَلَيْهِ.
(وَلَوْ مَرِضَ) الْمَحْبُوسُ (فِي الْحَبْسِ لَا يُخْرَجُ) مِنْ الْحَبْسِ (إنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَبْسِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِيُضْجِرَ قَلْبَهُ فَيَتَسَارَعَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَبِالْمَرَضِ يَزْدَادُ ضَجَرُهُ (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ فِيهِ (أُخْرِجَ) مِنْ الْحَبْسِ بِكَفِيلٍ لِئَلَّا يَهْلِكَ كَمَا لَوْ مَرِضَ مَرَضًا أَضْنَاهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُخْرِجُهُ، وَالْهَلَاكُ فِي السِّجْنِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ (وَلَا يُمَكَّنُ الْمُحْتَرِفُ مِنْ اشْتِغَالِهِ) بِالْحِرْفَةِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْحَبْسِ (هُوَ الصَّحِيحُ) وَقِيلَ: لَا يُمْنَعُ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ عَسَى تَكُونُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَلَا يُؤَاجِرُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ آجَرَهُ وَأَدَّى دَيْنَهُ بِمَا سِوَى قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ (وَيُمَكَّنُ مِنْ وَطْءِ جَارِيَتِهِ إنْ كَانَ فِيهِ) أَيْ فِي السِّجْنِ (خَلْوَةٌ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرُهُ: إنْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ لَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ فِي السِّجْنِ مَوْضِعُ سُتْرَةٍ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ شَهْوَةِ الْفَرْجِ كَاقْتِضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ، وَقِيلَ يُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ لِأَنَّهُ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ، انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا الْمُنَاسِبُ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ وُصُولِ امْرَأَتِهِ كَذَلِكَ تَدَبَّرْ.
(وَإِذَا تَمَّتْ الْمُدَّةُ) لِلْحَبْسِ عَلَى الِاخْتِلَافِ (وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ) هَذَا تَكْرَارٌ لَكِنْ ذَكَرَهُ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ (وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ) بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ عِنْدَ الْإِمَامِ (بَلْ يُلَازِمُونَهُ) لِأَنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ إلَى زَمَانِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيفَاءِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُونَهُ كَيْ لَا يُخْفِيَهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكْتَسِبُ فَوْقَ حَاجَتِهِ الدَّارَّةِ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ فَضْلَ كَسْبِهِ (وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ) تَفْسِيرٌ لِلْمُلَازَمَةِ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَدُورُونَ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ كَمَا فِي الْعِنَايَةِ (وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ) بِلَا اخْتِيَارِهِ أَوْ يَأْخُذُهُ الْقَاضِي (وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ لَكِنَّ الْمَدْيُونَ لَوْ آثَرَ أَحَدَ الْغُرَمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَهُ ذَلِكَ (وَالْمُلَازَمَةُ أَنْ يَدُورُوا مَعَهُ حَيْثُ دَارَ فَإِنْ دَخَلَ دَارِهِ) لَا يَدْخُلُونَ مَعَهُ، وَ (جَلَسُوا عَلَى الْبَابِ) إلَى أَنْ يَخْرُجَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ.
(وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِرَجُلٍ عَلَى امْرَأَةٍ) وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا (لَا يُلَازِمُهَا) لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ (بَلْ يَبْعَثُ امْرَأَةً) أَمِينَةً (تُلَازِمُهَا وَقَالَا إذَا فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ) أَيْ إذَا حَكَمَ بِإِفْلَاسِهِ (يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ) أَيْ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا مُلَازَمَتَهُ (إلَى أَنْ يُبَرْهِنُوا أَنَّ لَهُ مَالًا) لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فَتَثْبُتُ الْعُسْرَةُ وَعِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ، وَفِي قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُبَرْهِنُوا إلَى آخِرِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تُرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْعَسَارِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا.

.فَصْلٌ فِي كِتَابِ الْقَاضِي:

وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنْ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوُجُودِ إلَّا لِقَاضِيَيْنِ كَانَ مُرَكَّبًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ وَالْبَسِيطُ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ، وَتَرَكَ قَوْلَهُ إلَى الْقَاضِي كَمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ لِأَنَّ هَذَا الْفَصْلَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ بَلْ بَيَّنَ فِيهِ السِّجِلَّ وَالْمَحْضَرَ وَالصَّكَّ وَالْوَثِيقَةَ (إذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ) أَيْ الْقَاضِي (بِهَا) أَيْ بِشَهَادَتِهِمْ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَشَرْطِ الْحُكْمِ، وَهُوَ حُضُورُ الْخَصْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَصْمِ الْحَاضِرِ مَنْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مُسَخَّرًا، وَهُوَ مَنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي وَكِيلًا عَنْ الْغَائِبِ لِيَسْمَعَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَوْ أَرَادَ بِالْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ تَبْقَ حَاجَةٌ إلَى الْكِتَابِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ لِأَنَّ الْخَصْمَ حَاضِرٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّفِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى غَائِبٍ لَا يَحْكُمُ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالذَّاتِ كَمَا فِي الدُّرَرِ (وَكَتَبَ) الْقَاضِي (بِالْحُكْمِ) لِئَلَّا يَنْسَى الْوَاقِعَةَ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ وَلِيَكُونَ الْكِتَابُ مُذَكِّرًا لَهَا، وَإِلَّا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ بِحُضُورِ الْخَصْمِ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (وَهُوَ) أَيْ كِتَابُ الْحُكْمِ (السِّجِلُّ) الْحُكْمِيُّ لِأَنَّهُ سَجَّلَهُ أَيْ أَحْكَمَهُ بِالْحُكْمِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: السِّجِلُّ كِتَابُ الْقَاضِي، وَسَجَّلَ الْقَاضِي بِالتَّشْدِيدِ قَضَى وَحَكَمَ وَأَثْبَتَ حُكْمَهُ فِي السِّجِلِّ.
وَفِي الْبَحْرِ فَالسِّجِلُّ الْحُجَّةُ الَّتِي فِيهَا حُكْمُ الْقَاضِي، وَلَكِنَّ هَذَا، وَفِي عُرْفِنَا السِّجِلُّ كِتَابٌ كَبِيرٌ يُضْبَطُ فِيهِ وَقَائِعُ النَّاسِ وَمَا يَحْكُمُ بِهِ الْقَاضِي وَمَا يَكْتُبُ عَلَيْهِ.
(وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى) الْخَصْمِ الـ (غَائِبِ) بِأَنْ كَانَ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ وَيُشْتَرَطُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَسِيرَةُ السَّفَرِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ فِيمَا لَا يُرْجَعُ فِي يَوْمِهِ.
وَفِي السِّرَاجِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (لَا يُحْكَمُ) لِعَدَمِ جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ عِنْدَنَا وَلَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ يَرَى ذَلِكَ، ثُمَّ نُقِلَ إلَيْهِ نَفَّذَهُ بِخِلَافِ الْكِتَابِ الْحُكْمِيِّ حَيْثُ لَا يُنَفِّذُ خِلَافَ مَذْهَبِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَحْكُومٌ بِهِ فَلَزِمَهُ، وَالثَّانِي ابْتِدَاءُ حُكْمٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ كَمَا فِي التَّبْيِينِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ عَلَى الْغَائِبِ إذَا كَانَ حَنَفِيًّا فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْفُذُ لِقَوْلِهِ يَرَى ذَلِكَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ يَنْفُذُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ إذَا كَانَ الْقَاضِي شَافِعِيًّا كَمَا سَيَأْتِي (بَلْ يَكْتُبُ) الْقَاضِي (بِهَا) أَيْ بِالشَّهَادَةِ إلَى قَاضٍ يَكُونُ الْخَصْمُ فِي وِلَايَتِهِ (لِيَحْكُمَ) الْقَاضِي (الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ) عَلَى وَجْهِ الْخَصْمِ كَيْ لَا يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ (وَهُوَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِهِ ظَاهِرٌ (وَالْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ) مَنْسُوبٌ إلَى الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ (وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَقِيقَةِ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا نَقَلَهَا لِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِيَحْكُمَ بِهَا وَلِهَذَا يَحْكُمُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ الْكَاتِبِ بِخِلَافِ السِّجِلِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ وَيَنْقُضَ حُكْمَهُ، إذَا كَانَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ أَوْ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ: وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ لَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ عَمَّا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْقَاضِي فَكَيْفَ بِالْكِتَابِ وَفِيهِ شُبْهَةُ التَّزْوِيرِ، إذْ الْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ اسْتِحْسَانًا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَوَّزَهُ لِذَلِكَ وَعَلَيْهِ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ (وَيُقْبَلُ فِي كُلِّ مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْحَدِّ وَالْقَوَدِ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ عَنْ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ، وَفِي قَبُولِهِ سَعْيٌ فِي إثْبَاتِهِمَا قِيلَ فِيهِ شُبْهَةُ التَّبْدِيلِ وَالتَّزْوِيرِ وَهُمَا يَسْقُطَانِ بِالشُّبُهَاتِ (كَالدَّيْنِ) فَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِالْقَدْرِ وَالْوَصْفِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِشَارَةِ (وَالْعَقَارِ) فَإِنَّهُ أَيْضًا يُعْرَفُ بِالتَّحْدِيدِ (وَالنِّكَاحِ) سَوَاءٌ ادَّعَى الزَّوْجُ أَوْ الزَّوْجَةُ، وَكَذَا الطَّلَاقُ إنْ ادَّعَتْ عَلَى الزَّوْجِ (وَالنَّسَبِ) مِنْ قِبَلِ الْحَيِّ أَوْ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْقَبِيلَةِ (وَالْغَصْبِ) إذْ فِيهِ يَلْزَمُ الْقِيمَةُ وَهِيَ دَيْنٌ (وَالْأَمَانَةِ وَالْمُضَارَبَةِ الْمَجْحُودَتَيْنِ) لِأَنَّهُمَا كَالْمَغْصُوبَيْنِ حُكْمًا قَيَّدَهُمَا بِالْمَجْحُودَتَيْنِ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَجْحُودَتَيْنِ لَا يَحْتَاجَانِ إلَى كِتَابِ الْقَاضِي، وَكَذَا الشُّفْعَةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْوَفَاةُ وَالْوِرَاثَةُ وَالْقَتْلُ الَّذِي يُوجِبُ الْمَالَ لِأَنَّ الْبَعْضَ مِنْهَا يُعْرَفُ بِالْقَدْرِ وَالْوَصْفِ، وَالْبَعْضَ الْآخَرَ يُعْرَفُ بِأَحَدِهِمَا وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ فِي الْعَيْنِ الْمَنْقُولِ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنَحْوِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ الْإِبَاقَ يَغْلِبُ فِيهِ لَا فِي الْأَمَةِ.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي الْأَمَةِ كَالْعَبْدِ (وَ) رُوِيَ (عَنْ مُحَمَّدٍ قَبُولُهُ فِي كُلِّ مَا يُنْقَلُ وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَالْمُتَقَدِّمُونَ لَمْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِ الْإِمَامِ الثَّانِي، وَعَمَلُ الْفُقَهَاءِ الْيَوْمَ عَلَى التَّجْوِيزِ فِي الْكُلِّ لِلْحَاجَةِ (وَبِهِ يُفْتَى) كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْلُومٍ إلَى مَعْلُومٍ بِأَنْ يَقُولَ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ وَيَذْكُرَ نَسَبَهُمَا) بِأَنْ يَقُولَ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ.
وَفِي الْعِنَايَةِ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَعْلُومُ الْخَمْسَةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْلُومٍ إلَى مَعْلُومٍ فِي مَعْلُومٍ أَيْ الْمُدَّعَى لِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (فَإِنْ شَاءَ قَالَ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ أَنْ يَقُولَ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ (وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ) الْكِتَابُ (مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ) حَتَّى لَا يُبْطَلَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَيَقْرَؤُهُ) أَيْ الْقَاضِي الْكَاتِبُ الْكِتَابَ (عَلَى مَنْ يُشْهِدُهُمْ عَلَيْهِ) لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ (وَيُعْلِمُهُمْ بِمَا فِيهِ) أَيْ فِي الْكِتَابِ إنْ لَمْ يَقْرَأْ إذْ لَا شَهَادَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ (وَتَكُونُ أَسْمَاؤُهُمْ) أَيْ أَسْمَاءُ شُهُودِ الطَّرِيقِ، وَكَذَا أَنْسَابُهُمْ (دَاخِلَةً) فِي كِتَابِهِ.
وَفِي التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِ: وَيَكْتُبُ فِيهِ اسْمَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ بِهِ التَّمْيِيزُ، وَذَلِكَ بِذِكْرِ جَدِّهِمَا، وَبِذِكْرِ الْحَقِّ فِيهِ، وَبِذِكْرِ شُهُودِ الْأَصْلِ وَأَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ لِأَجْلِ التَّمْيِيزِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِذِكْرِ شَهَادَتِهِمْ هَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَشْهُورًا يَكْتَفِي بِاسْمِهِ الْمَشْهُورِ وَيَكْتُبُ الْعُنْوَانَ فِي دَاخِلِ الْكِتَابِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى الظَّاهِرِ لَا يُقْبَلُ، قِيلَ هَذَا فِي عُرْفِهِمْ أَمَّا فِي عُرْفِنَا الْعُنْوَانُ يُكْتَبُ عَلَى الظَّاهِرِ فَيُعْمَلُ بِهِ.
وَفِي الدُّرَرِ وَيَكْتُبُ تَارِيخَ الْكِتَابِ وَلَوْ لَمْ يَكْتُبْ فِيهِ التَّارِيخَ لَا يَقْبَلُهُ (وَيَخْتِمُهُ) أَيْ الْكَاتِبُ (بِحَضْرَتِهِمْ) أَيْ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ (وَيَحْفَظُوا) أَيْ الشُّهُودُ (مَا فِيهِ) أَيْ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ (وَيُسَلِّمُهُ) أَيْ الْكِتَابَ (إلَيْهِمْ) أَيْ إلَى الشُّهُودِ دَفْعًا لِتُهْمَةِ التَّغْيِيرِ، وَهَذَا عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ (وَأَبُو يُوسُفَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ (سِوَى إشْهَادِهِمْ أَنَّهُ كِتَابُهُ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا.
قِيلَ إذَا كَانَ الْكِتَابُ فِي يَدِ الْمُدَّعِي يُفْتِي بِأَنَّ الْخَتْمَ شَرْطٌ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الشُّهُودِ يُفْتِي بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ (وَاخْتَارَ) الْإِمَامُ (السَّرَخْسِيُّ قَوْلَهُ) أَيْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا (وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ) يَعْنِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَبْلَ أَنْ اُبْتُلِيَ بِقَضَاءٍ وَعَايَنَ مَا فِيهِ قَالَ فِيهِ مِثْلَ مَا قَالَا وَلَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَعَايَنَ بِمَا فِيهِ قَالَ: جَمِيعُ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ تَسْهِيلًا عَلَى النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قَالَا (وَإِذَا وَصَلَ) الْكِتَابُ (إلَى) الْقَاضِي (الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ نَظَرَ إلَى خَتْمِهِ وَلَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ) أَيْ لَا يَأْخُذُ الْكِتَابَ إلَّا وَقْتَ حُضُورِ الْخَصْمِ لِأَنَّهُ لِإِلْزَامِهِ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ لَكِنْ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِ أَنَّ حُضُورَهُ شَرْطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْكِتَابِ لَا شَرْطُ قَبُولِ الْكِتَابِ.
(وَ) إلَّا (بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُزَوَّرُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَأَيْضًا كِتَابُ الْقَاضِي مُلْزِمٌ إذْ يَجِبُ عَلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَيَعْمَلَ بِهِ وَلَا إلْزَامَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ (أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانِ) بْنِ (فُلَانٍ الْقَاضِي) وَالْجُمْلَةُ مَفْعُولُ قَوْلِهِ بِشَهَادَةِ، وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ يُسَلِّمُ الْكِتَابَ إلَى الْمُدَّعِي كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ (قَرَأَهُ عَلَيْنَا) وَأَخْبَرَنَا بِهِ (وَخَتَمَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ) كُلُّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ الطَّرَفَيْنِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) يَكْفِي شَهَادَةُ (أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ) الْقَاضِي (وَخَتْمُهُ) وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولُوا قَرَأَهُ عَلَيْنَا وَسَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ) فَيَكْفِيهِمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إسْلَامِ شُهُودِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ كَانَ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ إذَا أَنْكَرَ الْخَصْمُ كَوْنَهُ كِتَابَ الْقَاضِي أَمَّا إذَا أَقَرَّ فَلَا حَاجَةَ إلَى الشُّهُودِ (فَإِذَا شَهِدُوا) سَوَاءٌ عَلَى مَا قَالَاهُ أَوْ عَلَى مَا قَالَهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ (فَتَحَهُ) أَيْ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِي الْعِنَايَةِ أَنَّ الْأَصَحَّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ تَجْوِيزِ الْفَتْحِ عِنْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ بِالْكِتَابِ وَالْخَتْمِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ.
وَفِي التَّبْيِينِ وَلَوْ وَجَدَ فِي الْكِتَابِ مَا يُخَالِفُ شَهَادَتَهُمْ رَدَّهُ (وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا فِي الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْخَصْمُ: لَسْت بِفُلَانٍ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْقَبِيلَةِ اثْنَيْنِ بِهَذَا النَّسَبِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ.
(وَيَبْطُلُ الْكِتَابُ بِمَوْتِ) الْقَاضِي (الْكَاتِبِ، وَعَزْلِهِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ) إلَى الثَّانِي أَوْ بَعْدَ وُصُولِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا بِخُرُوجِهِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ كَالْجُنُونِ وَالْفِسْقِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ كَالْعَزْلِ وَالْإِخْرَاجِ حُكْمًا لِكَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْ الرَّعَايَا، فَكِتَابُهُ لَا يُقْبَلُ كَخِطَابِهِ لِانْتِفَاءِ الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بَعْدَ وُصُولِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ بَعْدَمَا قَرَأَ الْكِتَابَ لَا يَبْطُلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَيَحْكُمُ بِهِ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَبْطُلُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ مَاتَ الْكَاتِبُ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ الْوُصُولِ أَوْ بَعْدَهُ بَلْ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ يَقْضِي بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (، وَ) يَبْطُلُ (بِمَوْتِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ) وَعَزْلِهِ (إلَّا إنْ كَتَبَ بَعْدَ اسْمِهِ) أَيْ اسْمِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ (وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ) فَحِينَئِذٍ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّ الْغَيْرَ صَارَ تَبَعًا لِلْمَعْرُوفِ لِمُعَيَّنٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ، عَلَى مَا عَلَيْهِ مَشَايِخُنَا لِعَدَمِ التَّعْرِيفِ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ (لَا) يَبْطُلُ (بِمَوْتِ الْخَصْمِ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى وَارِثِهِ) أَيْ وَارِثِ الْخَصْمِ الْمُتَوَفَّى فَإِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَكَذَا يَنْفُذُ عَلَى وَصِيِّهِ سَوَاءٌ كَانَ تَارِيخُ الْكِتَابِ قَبْلَ مَوْتِ الْخَصْمِ أَوْ بَعْدَهُ، أَطْلَقَ الْخَصْمَ فَشَمِلَ الْمُدَّعِيَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
(وَإِذَا عَلِمَ الْقَاضِي بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ وَمَحَلِّهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ) مِنْ غَيْرِ شَاهِدٍ حَتَّى إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّ زَيْدًا غَصَبَ شَيْئًا مِنْ الْمُدَّعِي يَأْخُذُهُ عَنْ زَيْدٍ وَيَدْفَعُهُ إلَى الْمُدَّعِي، وَهَذَا جَوَابُ رِوَايَةِ الْأُصُولِ.
وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْوِقَايَةِ لِأَبِي الْمَكَارِمِ وَهَلْ يَقْضِي الْقَاضِي بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ نَعَمْ إذَا عَلِمَ فِي مِصْرِهِ حَالَ قَضَائِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا، وَقَالَ: لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وَفِي حُدُودٍ - هِيَ حَقُّ اللَّهِ - كَحَدِّ الزِّنَاءِ وَالشُّرْبِ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وَفِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ يَقْضِي بِهِ، وَإِذَا عَلِمَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ قَبْلَ قَضَائِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ فَحَضَرَ مِصْرَهُ، ثُمَّ رُفِعَتْ الْحَادِثَةُ إلَيْهِ فَعِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ الْعِلْمِ، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَاضِيًا عَلَى الرُّسْتَاقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ عَلِمَ بِحَادِثَةٍ فِي مِصْرٍ فَعُزِلَ، ثُمَّ أُعِيدَ فَعِنْدَهُ لَا يَقْضِي وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي.

.فَصَلِّ: قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ:

قَالَ فِي النِّهَايَةِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إذَا كَانَ سِجِلًّا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاؤُهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ إمْضَاؤُهُ إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ الْحُكْمِيِّ فَإِنَّ الرَّأْيَ لَهُ فِي التَّنْفِيذِ وَالرَّدِّ فَلِذَلِكَ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ تَعْدَادِ مَحَالِّ الِاجْتِهَادِ بِذِكْرِ أَصْلٍ يَجْمَعُهَا، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ.
(وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ) فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ لِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَكِنْ أَثِمَ الْمُوَلِّي لَهَا لِلْحَدِيثِ «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» (فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ) إذْ لَا يَجْرِي فِيهَا شَهَادَتُهَا، وَكَذَا قَضَاؤُهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَوْ قَضَتْ فِي حَدٍّ وَقَوَدٍ فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَمْضَاهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُبْطِلَهُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَأَمَّا قَضَاءُ الْخُنْثَى فَيَصِحُّ بِالْأَوْلَى وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقَوَدِ لِشُبْهَةِ الْأُنُوثَةِ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
(وَلَا يُسْتَخْلَفُ قَاضٍ) عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا يَنْفُذُ قَضَاءُ خَلِيفَتِهِ وَلَوْ مَرِيضًا.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّهُ نَافِذٌ فَلَا يُبْطِلُهُ حَاكِمٌ اعْتِبَارًا بِالْحُكْمِ (إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ) الِاسْتِخْلَافُ بِأَنْ قِيلَ مِنْ قِبَلِ الْمُقَلِّدِ: وَلِّ مَنْ شِئْتَ، وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ بِالْإِذْنِ دَلَالَةً كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ، فَلَوْ جُعِلَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ كَانَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْقَضَاءِ تَقْلِيدًا وَعَزْلًا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: الْخَلِيفَةُ إذَا أَذِنَ لِلْقَاضِي فِي الِاسْتِخْلَافِ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا وَأَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ جَازَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ ثُمَّ وَثُمَّ، فَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْمَأْمُورُ بِالِاسْتِخْلَافِ رَجُلًا فَقَضَى لِلْقَاضِي الَّذِي اسْتَنَابَهُ أَوْ وَلِيَهُ مُسْتَنِيبُهُ جَازَ قَضَاؤُهُ وَيَقْضِي النَّائِبُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ عِنْدَ الْأَصْلِ، وَعَكْسُهُ كَمَا فِي التَّنْوِيرِ لَكِنْ فِي الْبَزَّازِيَّةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بِكَلَامِ النَّائِبِ، أَمَّا النَّائِبُ يَقْضِي بِكَلَامِ الْقَاضِي إذَا أَخْبَرَهُ (بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِالْجُمُعَةِ) فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ لِكَوْنِهَا عَلَى شَرَفِ الْفَوَاتِ لِتَوَقُّتِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ إذْنًا فِي الِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ (وَإِذَا اسْتَخْلَفَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ) الِاسْتِخْلَافُ (فَنَائِبُهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ) أَيْ بِعَزْلِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ إيَّاهُ لِأَنَّهُ صَارَ نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ إلَّا إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ بِأَنْ قِيلَ لَهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ: اسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الْعَزْلُ (وَلَا) يَنْعَزِلُ (بِمَوْتِهِ) أَيْ بِمَوْتِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ (بَلْ هُوَ نَائِبُ الْأَصْلِ) حَقِيقَةً، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ نَائِبَ الْقَاضِي انْعَزَلَ بِمَوْتِهِ كَمَا فِي هِدَايَةِ النَّاطِفِيِّ وَلَمْ يَنْعَزِلْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، وَإِلَى أَنَّ قَاضِيَ أَمِيرِ النَّاحِيَةِ انْعَزَلَ بِمَوْتِهِ بِخِلَافِ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ حَيْثُ لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي كَمَا لَا يَنْعَزِلُ أُمَرَاؤُهُ.
وَفِي الْفَوَاكِهِ الْبَدْرِيَّةِ: وَنَائِبُ الْقَاضِي فِي زَمَانِنَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ وَبِمَوْتِهِ فَإِنَّهُ نَائِبُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَفِي الْمُحِيطِ: إذَا عُزِلَ السُّلْطَانُ انْعَزَلَ نَائِبُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ الْقَاضِي حَيْثُ لَا يَنْعَزِلُ نَائِبُهُ هَكَذَا قِيلَ وَلَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي إذَا عُزِلَ السُّلْطَانُ مَا لَمْ يَصِلْ الْخَبَرُ إلَيْهِ كَالْوَكِيلِ وَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ نَائِبِهِ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي إذَا قَالَ: عَزَلْتُ نَفْسِي أَوْ أَخْرَجْتُ نَفْسِي وَسَمِعَ السُّلْطَانُ يَنْعَزِلُ، وَإِلَّا لَا، وَقِيلَ لَا يَنْعَزِلُ أَصْلًا لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْعَامَّةِ فَلَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ (وَغَيْرُ الْمُفَوَّضِ) إلَيْهِ الِاسْتِخْلَافُ (إنْ قَضَى نَائِبُهُ بِحَضْرَتِهِ أَوْ) قَضَى (بِغَيْبَتِهِ فَأَجَازَهُ) الْأَصِيلُ عِنْدَ اسْتِمَاعِهِ (جَازَ) قَضَاؤُهُ إذَا كَانَ الْمُسْتَخْلَفُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ رَأْيِ الْأَوَّلِ وَقَدْ وُجِدَ (كَمَا فِي الْوَكَالَةِ) أَيْ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَبَاشَرَ وَكِيلُهُ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِغَيْبَتِهِ فَأَجَازَ عَمَلَهُ جَازَ.
(وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ فِي أَمْرٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ) قِيلَ هُوَ زَمَانُ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا يَعُمُّ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي الْأَصَحِّ (أَمْضَاهُ) الْقَاضِي الْمَرْفُوعُ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُخَالِفًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَتَى لَاقَى مُجْتَهَدًا فِيهِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِالْقَضَاءِ بِهِ، وَلَا يُنْقَضُ بِمَا دُونَهُ (إنْ لَمْ يُخَالِفْ الْكِتَابَ) كَالْقَضَاءِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا إذْ هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ} كَمَا فِي الْمِنَحِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يُمَثَّلَ الْقَضَاءُ بِتَقْدِيمِ الْوَارِثِ عَلَى الْمَدْيُونِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ نَافِذٌ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ (أَوْ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ) كَالْقَضَاءِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَةَ بِنِكَاحِ الثَّانِي بِلَا وَطْءٍ، إذْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ حَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ (أَوْ الْإِجْمَاعَ) كَالْقَضَاءِ بِحِلِّ مُتْعَةِ النِّسَاءِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى فَسَادِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى لَوْ قَضَى بِفَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَاتَّفَقَ وُقُوعُ قَضَائِهِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي تَنْفِيذُهُ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ - يَعْنِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِالِاخْتِلَافِ - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ لَكِنْ يُفْتَى بِخِلَافِهِ، انْتَهَى.
فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ بِمَا فِي الْخُلَاصَةِ فِي زَمَانِنَا لِأَنَّ قُضَاةَ زَمَانِنَا غَالِبًا لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِمَذَاهِبِهِمْ فَضْلًا عَنْ عِلْمِهِمْ بِمَذَاهِبِ بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَفِي الْبَحْرِ تَفْصِيلٌ فَلْيُرَاجَعْ.
(وَمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ خِلَافُ الْبَعْضِ) كَالْحُكْمِ بِجَوَازِ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ لِأَنَّ هَذَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَكِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنْكَرُوا وَرَدُّوا عَلَيْهِ.
قِيلَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يُعْتَبَرُ بِاخْتِلَافِ الْأَقَلِّ فِي مُقَابَلَةِ اتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رُبَّمَا خَالَفَ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ، وَلَمْ يَقُولُوا نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْكُمْ، يُقَالُ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ خِلَافٌ، وَفِي الْأُصُولِ اخْتِلَافٌ فَافْتَرَقَا، وَذَلِكَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ إذَا خَالَفَهُمْ إنْ جَوَّزُوا لَهُ يَكُونُ اخْتِلَافًا، وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزُوا يَكُونُ خِلَافًا.
وَفِي الْمِنَحِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْأَدَبِ: لَوْ قَضَى فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ يَجُوزُ وَفِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ لَا يَجُوزُ، أَرَادَ بِالْأَوَّلِ مَا كَانَ فِيهِ خِلَافٌ مُعْتَبَرٌ كَالْخِلَافِ بَيْنَ السَّلَفِ، وَأَرَادَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا، وَلَمْ يُعْتَبَرْ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ الْخِلَافُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَوْلِ الْمَهْجُورِ لِكَوْنِهِ مُقَابِلًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ الْخِلَافُ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ مُقَرِّرٍ، وَالِاخْتِلَافُ قَوْلٌ بِدَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ، وَقِيلَ الْخِلَافُ مِنْ آثَارِ الْبِدْعَةِ، وَالِاخْتِلَافُ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ.
(وَالْقَضَاءُ بِحِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ يَنْفُذُ ظَاهِرًا) أَيْ فِيمَا بَيْنَنَا (وَبَاطِنًا) أَيْ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ عِنْدَ الْإِمَامِ (وَلَوْ) وَصْلِيَّةٌ (بِشَهَادَةِ زُورٍ إذَا اُدُّعِيَ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ) مِنْ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالْإِقَالَةِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالنَّسَبِ، وَفِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ رِوَايَتَانِ (وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا بِشَهَادَةِ الزُّورِ) وَإِنْ نَفَذَ ظَاهِرًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ فَرَّعَ بِقَوْلِهِ (فَلَوْ أَقَامَتْ بَيِّنَةَ زُورٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَحَكَمَ بِهِ حَلَّ لَهَا تَمْكِينُهُ) أَيْ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الرَّجُلِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةَ زُورٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَحَلَّ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ الْوَطْءِ عِنْدَ الْإِمَامِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ - قَضَى بِالنِّكَاحِ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فَزَوِّجْنِي، فَقَالَ عَلِيٌّ: شَاهِدَاك زَوَّجَاك، وَلَمْ يَلْتَفِتْ لِقَوْلِهَا مِنْ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ مَعَ كَوْنِ الشُّهُودِ زُورًا بِدَلَالَةِ الْقِصَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مُكَلَّفٌ بِحَسَبِ الْوُسْعِ فَيَجِبُ التَّعْدِيلُ عَلَيْهِ، إذْ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الصِّدْقِ مُتَعَذِّرٌ بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَالْعَبِيدِ، وَالْحُكْمِ عَلَى نِكَاحِ الْمَنْكُوحَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ، إذْ الْوُقُوفُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُمْكِنٌ وَلَا يَلْزَمُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي إنْشَاءِ الْقَاضِي بِالْحُكْمِ وَكَذَا لَا يَلْزَمُ حُضُورُ الِاثْنَيْنِ فِي خُصُوصِ النِّكَاحِ كَمَا قِيلَ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْقَضَاءِ ثَبَتَ اقْتِضَاءً لَا صَرِيحًا فَلَا تُرَاعَى شَرَائِطُهُ (خِلَافًا لَهُمَا) لِأَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ حُجَّةٌ فِي الظَّاهِرِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِ الْحُجَّةِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْبَاطِنِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَهُمَا.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَأَثِمَ الشَّاهِدَانِ إثْمًا عَظِيمًا، وَلَا بُدَّ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ زِيَادَةِ قَيْدٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَحَلِّ مَانِعٌ لِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّ قَضَاءَهُ فِيمَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَائِهِ أَصْلًا لَا يُفِيدُ الْحِلَّ بِالْإِجْمَاعِ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِشُهُودِ زُورٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَ الْإِمَامِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُطَلِّقْهَا لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَحِلُّ لَهُ وَلَا يَحِلُّ لِلثَّانِي إذَا عَلِمَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ سِرًّا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي (وَفِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ) أَيْ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ (لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا اتِّفَاقًا) لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْإِنْشَاءِ فِي نَفْسِ الْمِلْكِ بِدُونِ السَّبَبِ كَمَا فِي الصَّرِيحِ كَمَنْ ادَّعَى أَمَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَقُلْ اشْتَرَيْتهَا مَثَلًا وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةَ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِالْإِجْمَاعِ.
(وَالْقَضَاءُ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ) وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَضَاءِ (نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ (وَبِهِ يُفْتَى) كَمَا فِي الْمُحِيطِ وَالْهِدَايَةِ (وَعِنْدَ الْإِمَامِ يَنْفُذُ لَوْ) قَضَى (نَاسِيًا. وَفِي الْعَمْدِ رِوَايَتَانِ) عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ لَا يَنْفُذُ.
وَفِي رِوَايَةٍ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ، فَفِي الْخَانِيَّةِ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ نَفَاذُ قَضَائِهِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَفِي الْفَتْحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْفَتْوَى، وَالْوَجْهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُفْتَى بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّارِكَ لِمَذْهَبِهِ عَمْدًا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا لِهَوًى بَاطِلٍ لَا لِقَصْدٍ جَمِيلٍ، وَأَمَّا النَّاسِي فَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ إنَّمَا وَلَّاهُ لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُخَالَفَةَ فَيَكُونُ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَجِبُ عَلَيْهِ عَدَمُ سَمَاعِهَا وَلَوْ سَمِعَهَا وَقَضَى لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْحَادِثَةِ كَمَا فِي الْمِنَحِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي قَضِيَّةٍ فِي عَصْرٍ، ثُمَّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي عَصْرٍ آخَرَ هَلْ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ أَمْ لَا ؟ فَعِنْدَهُ يَرْتَفِعُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَرْتَفِعُ فَيَكُونُ الْخِلَافُ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ.
(وَلَا يَقْضِي) الْقَاضِي أَيْ لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ (عَلَى غَائِبٍ) وَلَا يَقْضِي لَهُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ لَمْ تَعْمَلْ إلَّا إذَا سَلِمَتْ عَنْ الطَّعْنِ، وَالطَّاعِنُ غَائِبٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: قَضَى لِلْغَائِبِ أَوْ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَصْمٍ حَاضِرٍ، قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ: وَلِذَا فَسَّرْنَا بِعَدَمِ الصِّحَّةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِعَدَمِ النَّفَاذِ لِقَوْلِهِمْ إذَا نَفَّذَهُ قَاضٍ آخَرُ يَرَاهُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَاخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ فِي نَفَاذِهِ، فَقِيلَ: لَا يَنْفُذُ، وَقِيلَ يَنْفُذُ وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ فِي الْفَتْحِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ، قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: فِي نَفَاذِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ رِوَايَتَانِ، وَنَحْنُ نُفْتِي بِعَدَمِ النَّفَاذِ كَيْ لَا يَتَطَرَّقُوا إلَى إبْطَالِ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، وَالْقَائِلُ بِأَنَّ الْفَتْوَى عَلَى النَّفَاذِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، لَكِنْ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ أَنَّ قَوْلَهُمْ الْفَتْوَى عَلَى النَّفَاذِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ الْقَاضِي شَافِعِيًّا يَرَاهُ أَوْ حَنَفِيًّا لَا يَرَاهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقٍّ لَمْ يَرَاهُ لِاجْتِمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ كَمَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ، وَلَوْ كَانَ أَعَمَّ لَزِمَ هَدْمُ مَذْهَبِنَا (إلَّا بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَقْضِي عَلَى غَائِبٍ أَيْ لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا لَهُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (حَقِيقَةً كَوَكِيلِهِ) وَأَبِيهِ، وَوَصِيِّ الْمَيِّتِ، وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ بِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَحْكُمُ عَلَى الْغَائِبِ وَعَلَى الْمَيِّتِ وَيَكْتُبُ فِي السِّجِلِّ أَنَّهُ حَكَمَ عَلَى الْغَائِبِ بِحَضْرَةِ وَكِيلِهِ، وَعَلَى الْمَيِّتِ بِحَضْرَةِ وَصِيِّهِ (أَوْ شَرْعًا) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَقِيقَةً أَيْ بِإِقَامَةِ الشَّرْعِ عَنْهُ (كَوَصِيٍّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي) كَمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَيِّتًا وَلَهُ صَغِيرٌ قَدْ نَصَّبَ لَهُ وَصِيًّا (أَوْ حُكْمًا) لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ (بِأَنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا) لَازِمًا (لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ) مِنْ نَحْوِ الْمِلْكِ كَمَا إذَا ادَّعَى دَارًا عَلَى حَاضِرٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْغَائِبِ فَإِنَّهُ إنْ صَدَّقَهُ الْحَاضِرُ لَا يُسَلِّمُهَا الْقَاضِي إلَى الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَهَذَا حِيلَةٌ لِدَفْعِ دَعْوَى الْخَارِجِ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ الْحَاضِرُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَيْهِ قَضَى الْقَاضِي بِهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ أَيْضًا وَلِذَا لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، فَالْحَاضِرُ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْهُ حِينَئِذٍ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ شُفْعَةَ دَارٍ بِشِرَائِهِ مِنْ الْغَائِبِ أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْكَفَالَةَ بِأَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ كَذَا وَهَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِأَمْرِهِ لَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى قَاذِفِهِ، فَقَالَ الْقَاذِفُ: أَنَا عَبْدٌ، وَقَالَ الْمَقْذُوفُ: أَعْتَقَك مَوْلَاك، وَبَرْهَنَ عَلَيْهِ قَضَى عَلَيْهِمَا أَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْمَالِكَ الْغَائِبَ أَعْتَقَهُ تُقْبَلُ وَيَقْضِي عَلَيْهِمَا، وَهِيَ حِيلَةُ إثْبَاتِ الْعِتْقِ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَوْ قَالَ الْقَاذِفُ: إنَّ أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَمَةُ فُلَانٍ وَقَدْ قَذَفَهُ بِابْنِ الزَّانِيَةِ، فَأَقَامَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ أُمَّهُ بِنْتُ فُلَانٍ الْقُرَيْشِيَّةُ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْحَدِّ فَهُوَ قَضَاءٌ بِالنَّسَبِ أَيْضًا كَمَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ أُمِّهِ بِنْتَ فُلَانٍ الْقُرَيْشِيَّةَ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا أَمَةً لِجَوَازِ أَنَّ أُمَّهَا أَمَةٌ فَتَكُونُ أَمَةً تَبَعَةً لِلْأُمِّ، تَدَبَّرْ.
وَفِي الْبَحْرِ وَالْمِنَحِ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِمَا (فَإِنْ كَانَ) مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ وَالْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ بِالْوَاوِ (شَرْطًا) لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ (لَا يَصِحُّ) وَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَاضِرِ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ، هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ كَالسَّبَبِ لِجَامِعِ التَّوَقُّفِ، وَأَطْلَقَ ذِكْرَ الشَّرْطِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ لَكِنْ فِي الْكَافِي إنَّ الْأَصَحَّ هُوَ أَنَّ الشَّرْطَ إنْ تَضَمَّنَ ضَرَرَ الْغَائِبِ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ السَّبَبِ قَالَ قَاضِي خَانْ: وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ طَلَّقَ فُلَانٌ زَوْجَتَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا فِي الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ فَهُوَ كَالسَّبَبِ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِدُخُولِ فُلَانٍ الدَّارَ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الدُّخُولِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا.
وَفِي الْمِنَحِ: وَأَمَّا حِيلَةُ إثْبَاتِ طَلَاقِ الْغَائِبِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْفُصُولِ وَغَيْرِهِ فَكُلُّهَا الضَّعْفُ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ كَالسَّبَبِ.
فَمِنْهَا حِيلَةُ الْكَفَالَةِ بِمَهْرِهَا مُعَلَّقَةً بِطَلَاقِهِ.
وَمِنْهَا دَعْوَاهَا كَفَالَةً بِنَفَقَةِ الْعِدَّةِ مُعَلَّقَةً بِالطَّلَاقِ وَمَعَ هَذَا لَوْ حَكَمَ بِحُرْمَةٍ نَفَذَ لِاخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ.
(وَيُقْرِضُ الْقَاضِي مَالَ الْيَتِيمِ) وَكَذَا مَالُ الْوَقْفِ وَالْغَائِبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ مَتَى شَاءَ، مَعَ حُصُولِ مَنْفَعَةِ الْحِفْظِ لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ (وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ) أَيْ يَكْتُبُ الصَّكَّ لِذِكْرِ الْحَقِّ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ قَالَهُ الْمَوْلَى سَعْدِيٌّ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ انْتِصَابَ ذِكْرَ الْحَقِّ عُلِمَ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ لِيَكْتُب وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ ذِكْرَ الْحَقِّ عَلَمٌ لِلصَّكِّ (وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ) أَيْ الْإِقْرَاضُ (لِلْوَصِيِّ) بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِحْصَالِ حَتَّى لَوْ أَقْرَضَ يَضْمَنُ (وَلَا لِلْأَبِ فِي الْأَصَحِّ) وَفِي الْمِنَحِ: وَفِي الْأَبِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا كَالْوَصِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي الْخَانِيَّةِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَالْخِزَانَةِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَبَ كَالْقَاضِي فَقَدْ اخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْمُتُونِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ جَوَازِ إقْرَاضِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إقْرَاضُهُ لِلضَّرُورَةِ كَخَوْفٍ وَنَهْبٍ فَيَجُوزُ اتِّفَاقًا.
وَفِي التَّنْوِيرِ: وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالْجَوْرِ فَالْغُرْمُ عَلَى الْقَاضِي فِي مَالِهِ إنْ قَضَى بِذَلِكَ مُتَعَمِّدًا، وَأَقَرَّ بِهِ وَلَوْ قَضَى خَطَأً فَعَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ.

.فَصْلٌ فِي التَّحْكِيمِ:

هَذَا مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ، وَتَأْخِيرُهُ أَنَّ الْمُحَكَّمَ أَدْنَى مَرْتَبَةً مِنْ الْقَاضِي لِاقْتِصَارِ حُكْمِهِ عَلَى مَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
(وَلَوْ حَكَّمَ) مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ (الْخَصْمَانِ مَنْ يَصْلُحُ قَاضِيًا) بِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ فَلَوْ حَكَّمَا عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ لَمْ يَصِحَّ، وَتُشْتَرَطُ الْأَهْلِيَّةُ وَقْتَ التَّحْكِيمِ وَوَقْتَ الْحُكْمِ فَلَوْ حَكَّمَا عَبْدًا فَعَتَقَ أَوْ صَبِيًّا فَبَلَغَ أَوْ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ حَكَمَ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ وَلَوْ حَكَّمَ الذِّمِّيَّانِ ذِمِّيًّا جَازَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّهِمْ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَكَّمُ مَعْلُومًا فَلَوْ حَكَّمَا أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لَمْ يَجُزْ إجْمَاعًا لِلْجَهَالَةِ (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا صَحَّ) الْحُكْمُ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا، وَرَضِيَا بِهِ لِوِلَايَتِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا (وَنَفَذَ حُكْمُهُ) أَيْ حُكْمُ الْمَحْكُومِ (عَلَيْهِمَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ نُكُولٍ) لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ.
(وَ) نَفَذَ (إخْبَارُهُ) أَيْ إخْبَارُ الْمُحَكَّمِ (بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ) بِأَنْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا: قَدْ أَقْرَرْتَ عِنْدِي لِهَذَا بِهَذَا بِكَذَا وَقَضَيْتُ عَلَيْك.
(وَ) نَفَذَ إخْبَارُهُ (بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ) بِأَنْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا: قَامَتْ عَلَيْك بَيِّنَةٌ فَعُدِّلَتْ عِنْدِي فَحَكَمْتُ لِذَلِكَ (حَالَ وِلَايَتِهِ) أَيْ بَقَاءِ تَحْكِيمِهِمَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْعَدَالَةِ مُقَيِّدٌ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ حَكَمْتُ مَثَلًا فَيَصِيرُ الْإِخْبَارُ قَبْلَ الِانْعِزَالِ بِالْحُكْمِ، وَتَقُومُ مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْقُضَاةِ بِخِلَافِ إخْبَارِهِ بِحُكْمِهِ لِانْقِضَاءِ وِلَايَتِهِ كَالْقَاضِي الْمَعْزُولِ (وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْخَصْمَيْنِ (أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ حُكْمِهِ ) لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَزْلُهُ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْجَائِزَةِ فَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِنَقْضِهِ كَمَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مُضَارَبَةٍ وَشَرِكَةٍ وَوَكَالَةٍ إذَا لَمْ تَكُنْ الْوَكَالَةُ بِالْتِمَاسِ الطَّالِبِ (لَا بَعْدَهُ) أَيْ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ بَعْدَ حُكْمِهِ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا كَالْقَاضِي إذَا قَضَى، ثُمَّ عُزِلَ لَا يَبْطُلُ قَضَاؤُهُ.
(وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُهُ) أَيْ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ (إلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إنْ وَافَقَ مَذْهَبَهُ) لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي نَقْضِهِ، ثُمَّ فَائِدَةُ هَذَا الْإِمْضَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ لِقَاضٍ آخَرَ - يَرَى خِلَافَهُ - نَقْضُهُ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ لِأَنَّ إمْضَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ (وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ مَذْهَبَهُ (نَقَضَهُ) أَيْ لَمْ يُمْضِهِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ فَلَمْ يُلْزِمْ الْقَاضِيَ إذَا خَالَفَ رَأْيَهُ.
(وَلَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِي حَدٍّ) إذْ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى (وَقَوَدٍ) لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إبَاحَةَ دَمِهِمَا فَلَا يَجُوزُ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِيهِمَا لِتَوَقُّفِ حُكْمِهِ عَلَى صِحَّةِ تَحْكِيمِهِمَا، وَقِيلَ: إنَّ حُكْمَهُ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِيفَاءُ بِالصُّلْحِ، وَاسْتِيفَاءُ الْحَدِّ وَالْقَوَدِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِالصُّلْحِ فَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِمَا (وَيَصِحُّ) التَّحْكِيمُ (فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ) وَغَيْرِهَا الَّذِي هُوَ الثَّابِتُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى (قَالُوا) أَيْ مَشَايِخُنَا (وَلَا يُفْتَى بِهِ) أَيْ بِالتَّحْكِيمِ (دَفْعًا لِتَجَاسُرِ الْعَوَامّ) وَفِي الْبَحْرِ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يُفْتَى بِهِ: لَا يُكْتَبُ عَلَى الْفَتْوَى أَوْ لَا يُجَابُ بِاللِّسَانِ بِالْحِلِّ، وَإِنَّمَا يَسْكُتُ الْمُفْتِي كَمَا أَفَادَهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى بِقَوْلِهِ: نَكْتُمُ هَذَا الْفَصْلَ وَلَا نُفْتِي بِهِ، وَظَاهِرُ الْهِدَايَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُفْتِيَ يُجِيبُ بِقَوْلِهِ بِلَا يَحِلُّ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ، انْتَهَى.
(وَلَوْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَأٍ فَحَكَمَ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَنْفُذُ) لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُحَكِّمَيْنِ وَلَا يَنْفُذُ إذًا فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُمْ مَا رَضُوا بِحُكْمِهِ كَمَا لَوْ حَكَّمَا فِي عَيْبِ مَبِيعٍ فَقَضَى بِرَدِّهِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْمُشْتَرِي بِتَحْكِيمِهِ.
قَيَّدَ بِكَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ فِيهِ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ مَالِهِ إذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ خَطَأً، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِهَا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْأَوْلِيَاءِ قُومُوا فَدُوهُ» (وَلَا يَصِحُّ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ وَلَا الْمُوَلَّى) أَيْ الْقَاضِي مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ (لِأَبَوَيْهِ) وَإِنْ عَلَا (وَوَلَدِهِ) وَإِنْ سَفَلَ (وَزَوْجَتِهِ) لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِحُكْمِهِ لَهُمْ (وَيَصِحُّ) حُكْمُهُمَا (عَلَيْهِمْ) كَالشَّهَادَةِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ لَهُمْ وَتَجُوزُ عَلَيْهِمْ (وَيَصِحُّ لِمَنْ وَلَّاهُ وَعَلَيْهِ) لِأَنَّ مَنْ جَازَ شَهَادَتُهُ لَهُ وَعَلَيْهِ جَازَ قَضَاؤُهُ لَهُ وَعَلَيْهِمْ.

.مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ:

مَسَائِلُ شَتَّى جَمْعُ شَتِيتٍ أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ وَهُوَ هُنَا مَرْفُوعٌ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ لِلْمَسَائِلِ، وَالْمَسَائِلُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ شَتَّى نَصَبْتَ عَلَى الْحَالِ أَيْ مُتَفَرِّقِينَ (لَيْسَ لِذِي سُفْلٍ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى السُّفْلِ (عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتِدَ) أَيْ لَا يَدُقَّ وَتَدًا (فِي سُفْلِهِ أَوْ يَنْقُبَ كُوَّةً) بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهِيَ الطَّاقَةُ،.
وَفِي الدِّيوَانِ بِالْفَتْحِ الرَّوْزَنَةُ.
وَفِي الْبَحْرِ بِفَتْحِ الْكَافِّ نَقْبُ الْبَيْتِ وَيُجْمَعُ عَلَى كُوًى بِالْكَسْرِ وَقَدْ تُضَمُّ الْكَافُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَيُسْتَعَارُ لِمَفَاتِيحِ الْمَاءِ إلَى الْمَزَارِعِ وَالْجَدَاوِلِ.
وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّ الْجَمْعَ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ (بِلَا رِضَى ذِي الْعُلُوِّ وَلَا لِذِي الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ) أَوْ يَضَعَ جِذْعًا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ أَوْ يُحْدِثَ كَنِيفًا بِلَا رِضَى ذِي سُفْلٍ عِنْدَ الْإِمَامِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَسْبَابِ الضَّرَرِ فَيَمْنَعُهُ الْقَاضِي (وَعِنْدَهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ (فِعْلُ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ بِلَا رِضَى الْآخَرِ) إذْ هُوَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ (وَقِيلَ: قَوْلُهُمَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ) أَيْ لِقَوْلِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ إذْ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: لَا بَلْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ وَهُوَ فِي مَحَلِّ وُقُوعِ الشَّكِّ، فَمَا لَا شَكَّ فِي عَدَمِ ضَرَرِهِ كَوَضْعِ مِسْمَارٍ صَغِيرٍ يَجُوزُ اتِّفَاقًا وَمَا فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ كَفَتْحِ الْبَابِ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ اتِّفَاقًا، وَمَا يُشَكُّ فِي التَّضَرُّرِ بِهِ كَدَقِّ الْوَتَدِ فِي الْجِدَارِ أَوْ السَّقْفِ فَعِنْدَهُمَا لَا يُمْنَعُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ، وَالْإِطْلَاقُ يُعَارِضُهُ الرِّضَى فَإِذَا أَشْكَلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلُوِّ مِنْ تَوْهِينِ الْبِنَاءِ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ، وَلِذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَهْدِمَ كَالْجِدَارِ وَالسَّقْفِ فَكَذَا نَقْضُهُ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ قِيَاسٌ وَهَلْ يُمْنَعُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْعُلُوِّ ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ قَالَ صَدْرُ الشَّهِيدِ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ أَنَّهُ يَضُرُّ أَمْ لَا لَا يَمْلِكُ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ يَمْلِكُ.
وَفِي الْبَحْرِ لَوْ انْهَدَمَ السُّفْلُ بِغَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي، وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ إنْ شَاءَ، وَيَبْنِي عَلَيْهِ عُلُوَّهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَالسُّكْنَى حَتَّى يَدْفَعَ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا.
(وَلَيْسَ لِأَهْلِ زَائِغَةٍ) أَيْ سِكَّةٍ (مُسْتَطِيلَةٍ) صِفَةٌ لِزَائِغَةٍ أَيْ طَوِيلَةٍ (تَنْشَعِبُ) أَيْ تَتَفَرَّعُ (مِنْهَا) أَيْ مِنْ الزَّائِغَةِ الْمُسْتَطِيلَةِ (مُسْتَطِيلَةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ) إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُ طَرِيقِ الزَّائِغَةِ الْمُسْتَطِيلَةِ (فَتْحُ بَابٍ) فِي حَائِطِ دَارِهِمْ (فِي) السِّكَّةِ (الْمُنْشَعِبَةِ) لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَيْسَ لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ السِّكَّةِ الْمُنْشَعِبَةِ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لَهَا بِأَجْزَائِهَا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ السِّكَّةِ الْأُولَى فَتْحَ بَابٍ فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ طَرِيقًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَيُحْدِثَ لِنَفْسِهِ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيهَا فَيُمْنَعَ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا لِلرِّيحِ أَوْ الضَّوْءِ فَلَا يُمْنَعَ (وَفِي النَّافِذَةِ) الْمُنْشَعِبَةِ (وَمُسْتَدِيرَةٍ) هِيَ الَّتِي (لَزِقَ طَرَفَاهَا) يَعْنِي سِكَّةً فِيهَا اعْوِجَاجٌ حَتَّى بَلَغَ عِوَجُهَا رَأْسَ السِّكَّةِ، وَالسِّكَّةُ غَيْرُ نَافِذَةٍ (لَهُمْ) أَيْ لِأَهْلِ السِّكَّةِ الْأُولَى (ذَلِكَ) أَيْ فَتْحُ بَابٍ فِي الْمُنْشَعِبَةِ، أَمَّا النَّافِذَةُ فَلِأَنَّ الْمُرُورَ حَقُّ الْعَامَّةِ وَهُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِيرَةُ الَّتِي وُصِلَ طَرَفَاهَا بِهَا فَلِأَنَّهَا سِكَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا فَكَانَ الصَّحْنُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ السِّكَّةِ حَتَّى لَوْ بِيعَتْ دَارٌ فِي الْمُسْتَدِيرَةِ تَكُونُ الشُّفْعَةُ لِجَمِيعِ أَهْلِ السِّكَّةِ، قِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ مِثْلَ نِصْفِ دَائِرَةٍ أَوْ أَقَلَّ، أَمَّا إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَفْتَحُ أَهْلُ الْأُولَى بَابًا فِيهَا لِكَوْنِهَا سِكَّةً عَلَى حِدَةٍ.
(وَمَنْ ادَّعَى هِبَةً فِي وَقْتٍ) يَعْنِي ادَّعَى رَجُلٌ شَيْئًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي وَقْتِ كَذَا (فَسُئِلَ بَيِّنَةً) أَيْ فَسَأَلَهُ الْقَاضِي بَيِّنَةً لِإِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (فَقَالَ) الْمُدَّعِي (جَحَدَنِي) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْته مِنْهُ أَوْ لَمْ يَقُلْ) الْمُدَّعِي (ذَلِكَ) أَيْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ (فَبَرْهَنَ عَلَى الشِّرَاءِ بَعْدَ وَقْتِ الْهِبَةِ يُقْبَلُ) بُرْهَانُهُ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ الْمُدَّعَى فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الشِّرَاءُ بَعْدَ الْهِبَةِ.
(وَلَوْ) بَرْهَنَ عَلَى الشِّرَاءِ (قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ وَقْتِ الْهِبَةِ (لَا يُقْبَلُ) بُرْهَانُهُ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَوَّلًا أَنَّهَا - أَيْ الدَّارَ مَثَلًا - وَقْفٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ ادَّعَاهَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ أَوَّلًا، ثُمَّ ادَّعَى الْوَقْفَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّوْفِيقَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مُمْكِنٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ: وَهَبَ لِي مُنْذُ شَهْرٍ، ثُمَّ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مُنْذُ أُسْبُوعٍ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ فَيَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ بِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مِلْكُ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْهِبَةِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الشِّرَاءِ قَبْلَ وَقْتِ الْهِبَةِ، وَفِي التَّبْيِينِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمَا تَارِيخًا أَوْ ذَكَرَ لِأَحَدِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِأَنْ يُجْعَلَ الشِّرَاءُ مُتَأَخِّرًا.
وَفِي الْبَحْرِ أَنَّ قَوْلَهُ جَحَدَنِي الْهِبَةَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيقِهِ.
(وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ زَيْدًا اشْتَرَى جَارِيَتَهُ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ وَتَرَكَ هُوَ) أَيْ الْمُدَّعِي (خُصُومَتَهُ حَلَّ لَهُ) أَيْ لِلْمُدَّعِي (وَطْؤُهَا) أَيْ وَطْءُ الْجَارِيَةِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِإِقْرَارِهِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ الشِّرَاءَ كَانَ جُحُودُهُ لِلْبَيْعِ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ، إذْ الْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ، وَالْجُحُودُ إنْكَارُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ، وَبِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ جُعِلَ الْجُحُودُ مَجَازًا عَنْ الْفَسْخِ، لِمَا فِي التَّنْوِيرِ: جُحُودُ مَا عَدَا النِّكَاحَ فَسْخٌ فَلَوْ جَحَدَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ ادَّعَاهُ وَبَرْهَنَ يُقْبَلُ بُرْهَانُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
(وَمَنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ عَشَرَةِ) دَرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ (وَادَّعَى أَنَّهَا) أَيْ الْعَشَرَةَ (زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ صُدِّقَ) مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَقَعُ عَلَيْهِمَا، أَطْلَقَهُ فَشَمِلَ مَا إذَا بَيَّنَ ذَلِكَ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا (لَا) يُصَدَّقُ (إنْ ادَّعَى أَنَّهَا سَتُّوقَةٌ) لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا تَقَعُ عَلَيْهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمِنَحِ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهَا سَتُّوقَةٌ لَا يُصَدَّقُ إنْ كَانَ الْبَيَانُ مِنْهُ مَفْصُولًا وَصُدِّقَ إنْ كَانَ الْبَيَانُ مِنْهُ مَوْصُولًا (وَلَا) يُصَدَّقُ (إنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْجِيَادِ أَوْ حَقِّهِ أَوْ الثَّمَنِ أَوْ بِالِاسْتِيفَاءِ) لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ الْحَقِّ بِوَصْفِ التَّمَامِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ قَبَضْتُ دَرَاهِمَ جِيَادًا لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الزُّيُوفَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا، وَفِيمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ اسْتَوْفَى، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ زُيُوفًا يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا صُدِّقَ لِإِمْكَانِ التَّأْوِيلِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - إنْ كَانَ مَوْصُولًا - صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ، وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمَفْصُولِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْقَدْرِ وَالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا اسْتَثْنَى كَانَ اسْتِثْنَاءَ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ فَصَحَّ مَوْصُولًا، كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً، أَمَّا إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ عَشَرَةٍ جِيَادٍ، فَقَدْ أَقَرَّ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِذَا قَالَ: إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْكُلَّ مِنْ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوْدَةِ، كَقَوْلِهِ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ إلَّا دِينَارًا كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا كَمَا فِي الْبَحْرِ نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ لِلْمُصَنِّفِ التَّفْصِيلُ، تَدَبَّرْ.
(وَالزَّيْفُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ) لِلْقُصُورِ فِي الْجَوْدَةِ إلَّا أَنَّهُ مَقْبُولٌ بَيْنَ التُّجَّارِ (وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ أَيْضًا) كَمَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ لِلرَّدَاءَةِ، وَمَقْبُولَةٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ (وَالسَّتُّوقَةُ مَا غَلَبَ غِشُّهُ) أَيْ ظَاهِرُهَا فِضَّةٌ، وَوَسَطُهَا نُحَاسٌ أَوْ رَصَاصٌ وَهُوَ مُعَرَّبُ ستويه.
قَيَّدَ بِدَعْوَى الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ مَاتَ فَادَّعَى وَارِثُهُ أَنَّهَا زُيُوفٌ لَمْ تُقْبَلْ، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْمُضَارَبَةِ أَوْ الْغَصْبِ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهَا زُيُوفٌ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَارِثُ.
وَفِي التَّنْوِيرِ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَهُ قَرْضٌ وَبَعْضَهُ رِبًا وَبَرْهَنَ عَلَيْهِ قُبِلَ بُرْهَانُهُ.
(وَمَنْ قَالَ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ) أَوْ قَالَ بَلْ هُوَ لَك أَوْ لِفُلَانٍ (ثُمَّ قَالَ) لَهُ (فِي مَجْلِسِهِ) ذَلِكَ (نَعَمْ لِي عَلَيْك أَلْفٌ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بِلَا حُجَّةٍ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالثَّانِيَ دَعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ أَوْ تَصْدِيقِ الْخَصْمِ (بِخِلَافِ مَا لَوْ كَذَّبَ مَنْ قَالَ لَهُ: اشْتَرَيْتَ مِنِّي هَذَا، ثُمَّ صَدَّقَهُ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ أَحَدَ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ فَلَا يَنْفَرِدُ بِالْعَقْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ أَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ يَنْفَرِدُ بِرَدِّ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا كَمَا فِي الْهِدَايَةِ لَكِنْ أَوْرَدَ يَعْقُوبُ بَاشَا فِي حَاشِيَتِهِ سُؤَالًا وَجَوَابًا فِي هَذَا الْمَحَلِّ، فَلْيُطَالَعْ.
(وَمَنْ قَالَ لِمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا: مَا كَانَ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَبَرْهَنَ) الْمُدَّعَى (عَلَيْهِ بِهِ فَبَرْهَنَ هُوَ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ قُبِلَ بُرْهَانُهُ) وَقَالَ زُفَرُ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَكَذَا الْإِبْرَاءُ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا.
وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيَبْرَأُ مِنْهُ، يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ، وَقَدْ يُصَالِحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ظَاهِرًا، ثُمَّ يُقْضَى كَمَا يُقْبَلُ بُرْهَانُهُ لَوْ ادَّعَى الْقِصَاصَ عَلَى آخَرَ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ بَرْهَنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْعَفْوِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ، وَكَذَا فِي دَعْوَى الرِّقِّ بِأَنْ ادَّعَى عُبُودِيَّةَ شَخْصٍ فَأَنْكَرَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إعْتَاقَهُ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً تُقْبَلُ.
(وَإِنْ زَادَ عَلَى إنْكَارِهِ: وَلَا أَعْرِفُك) أَوْ لَا رَأَيْتُك أَوْ لَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَك مُعَامَلَةٌ أَوْ مُخَالَطَةٌ أَوْ مَا اجْتَمَعْتُ مَعَك فِي مَكَان (فَلَا) يُقْبَلُ بُرْهَانُهُ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُعَامَلَةٌ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ.
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ: يُقْبَلُ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ وَالْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذِي بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ، ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فِي النَّهَارِ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ لَا يُقْبَلُ لَكِنْ فِي الْإِصْلَاحِ كَلَامٌ يُمْكِنُ جَوَابُهُ، تَتَبَّعْ.
(وَلَوْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ بَيْعَ أَمَتِهِ مِنْهُ وَأَرَادَ رَدَّهَا) أَيْ رَدَّ الْأَمَةِ (بِعَيْبٍ فَأَنْكَرَ) الْآخَرُ الْبَيْعَ (فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي عَلَى الْبَيْعِ) مِنْهُ (وَ) بَرْهَنَ (الْمُنْكِرُ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَا يُسْمَعُ بُرْهَانُ الْمُنْكِرِ) لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَرَاءَةِ تُعْتَبَرُ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيُقْتَضَى وُجُودُ الْعَقْدِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بِأَنْ بَاعَهَا وَكِيلُهُ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْعَيْبِ.
وَفِي الْبَحْرِ تَفْصِيلٌ، فَلْيُطَالَعْ، وَفِي التَّنْوِيرِ: أَقَرَّ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ فُلَانٍ، ثُمَّ جَحَدَهُ صَحَّ.
(وَذِكْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ صَكٍّ) أَيْ مَنْ كَتَبَ صَكَّ الشِّرَاءِ مَثَلًا وَذَكَرَ فِي آخِرِهِ مَا أَدْرَكَ فُلَانًا مِنْ دَرَكٍ فَعَلَيَّ خَلَاصُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ وَذِكْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَمْ يَقُلْ وَكَتْبُ لِأَنَّ الْكَتْبَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ كَالذِّكْرِ فِي الْحُكْمِ أَوْ كَتَبَ ذِكْرُ إقْرَارٍ عَلَى نَفْسِهِ وَذَكَرَ فِي آخِرِهِ مَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ (يَبْطُلُ كُلُّهُ) أَيْ كُلُّ الصَّكِّ عِنْدَ الْإِمَامِ قِيَاسًا لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِهِ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فِي أَثْنَائِهِ أَمَّا لَوْ تَرَكَ فُرْجَةً فَقَالُوا لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ (وَعِنْدَهُمَا) يَبْطُلُ (آخِرُهُ) أَيْ مَا يَلِيهِ (فَقَطْ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ إذْ الصَّكُّ لِلِاسْتِيثَاقِ وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْكُلِّ يَكُونُ لِلْإِبْطَالِ.
وَفِي الْبَحْرِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْطَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مُتَعَاطِفَةً مُتَّصِلًا بِهَا فَإِنَّهُ لِلْكُلِّ، وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا فَإِلَى الْأَخِيرِ.